ن إحتقار الكهنوت الإسلامي لباقي الأديان لكونها إما محرفة أو مبنية على مجموعة من الأساطير القديمة و الخرافات التي لا يوجد لها إثبات مادي ملموس، يجعل الإسلام يظهر و كأنه مثبت علميا بتجارب مخبرية موثقة و مؤكدة، بينما الحقيقة هي أنه يحتضن في طياته نفس الحمولة الأسطورية و نسبة كبيرة من الخرافات و المرويات القديمة التي إقتبسها من حضارات و أمم و شعوب سبقته بآلاف السنين، بل حتى الفكرة الرئيسية المتمثلة في البعث بعد الموت و الحساب و المكافأة بالجنة أو العقاب بالجحيم ليست خاصة بالإسلام أو بالأديان الإبراهيمية، بل هي موروث أسطوري قديم عرفته شعوب و حضارات سبقت ظهور الأديان بآلاف السنين، و لعل أبرز أسطورة تهتم بمفهوم البعث و الحساب هي تلك التي وردت بالتفصيل في ما ييمى بكتاب الموتى الفرعوني و الذي يعرف أيضا ببردية “حونفر”.
هذا الكتاب يتكون من مجموعة مفصلة من التعاويذ و التمائم السحرية التي كانت تنقش على جدران المقابر أو على التوابيت و ذلك إبان عصر الدولة القديمة (ما بين 2780 ق.م و 2263 ق.م)، لتتحول إلى بردية مكتوبة خلال عصر الدولة الوسطى و الحديثة (ما بين 2134 ق.م و 1069 ق.م)، حيث تكتب نصوص التعاويذ و توضع البردية في التابوت إلى جانب المومياء.
و قد كان كل مصري قديم ذو شأن معين حريصا على تكليف الكهنة خلال تحنيطه و دفنه بتجهيز كتاب الموتى الخاص به، بحيث يذكر فيه إسمه و إسم أبيه واسم أمه ووظيفته في الدنيا، وذلك إستعدادا ليوم وفاته وتجهيز طقوس نقله إلى مقبرته، و لم يكن هذا الأمر متوفراً لكل المصريين ﻷنه مكلف جدا لذلك إختصت به طبقة معينة من النبلاء و الموظفين و خدام الآلهة في المعبد.
تلك التعاويذ و التمائم التي يحملها الكتاب هي تعليمات إرشادية تمكن الميت من تخطي العقبات والمخاطر التي ستصادف روحه في أثناء رحلته إلى الحياة الأخرى، وتدله أيضا على الوسائل التي يتعين عليه أن يستخدمها ليتمم هذه الرحلة بنجاح من دون أن يتعرض لأي سوء.
توجد في كتاب الموتى عادة صورة لأوزيريس جالسا على عرشه في الآخرة وإلى الخلف تستند إليه أختاه إيزيس ونفتيس، وأمامه أبناء إبنه حورس الأربعة الصغار ليساعدوه في حساب الميت. و قد كان تصور المصري القديم أن الإله حورس سوف يأتي بالميت بعد نجاحه في اختبار الميزان ويقدمه إلى أوزيريس، ويُعطى لباسا جميلا ويدخله إلى الحديقة الغناء “الجنة”، و قبل ذلك لا بد من أن تتم عملية وزن أعمال الميت في الدنيا عن طريق وضع قلبه في إحدى كفتي الميزان وتوضع في كفة الميزان الأخرى ريشة “ماعت” وهي رمز “العدالة والأخلاق السوية”، فإذا كانت الريشة أثقل من قلب الميت، فمعنى ذلك أنه كان شخصاً طيبا في حياته و على خلق كريم فيأخذ ملبسا جميلا ويدخل حديقة “الجنة” حيث حقول الفردوس تتخللها الأنهار من تحتها ليعيش فيها راضيا سعيدا أبد الآبدين. أما إذا ثقل قلب الميت عن وزن الريشة فمعناه أنه قد كان في حياته شخصاً شريرا، و عندئذ يُلقى بالقلب وبالميت إلى حيوان خرافي يكون واقفا بجوار الميزان – اسمه “عمعموت” – رأسه رأس أسد وجسمه جسم فرس النهر وذيله ذيل تمساح – فيلتهمه هذا الحيوان على التو وتكون نهايته.
في جزء آخر من البردية يظهر الميت و هو يمثل أمام ما يسمى بمحكمة الموتى و هي مكونة من 42 قاضيا للإعتراف بما كان يفعله في حياته، في مقدمتهم رع-حوراختي”. ونرى إلى اليمين أسفل منهم أوزيريس جالسا على العرش وخلفه تقف أختاه إيزيس و نفتيس وأمامه الأبناء الأربعة لحورس واقفون على زهرة البردي وقد قاموا بالمحافظة على جثة الميت في القبر، ثم يأتي حورس بالميت لابسا ثوبا جميلا ليمثل أمام أوزيريس ويدخل بعد ذلك الجنة. إلى اليسار نرى أنوبيس يصاحب الميت لإجراء عملية وزن قلبه، و في الوسط منظر عملية وزن القلب حيث يقوم الإله أنوبيس بوزن قلب الميت ويقارنه بريشة الحق “ماعت”، بينما يقف الوحش الخرافي “عمعموت” منتظرا التهام القلب إذا كان الميت خطاء عصيا، وفي نفس الوقت يقوم “تحوت” (إله الحكمة الذي علم المصريين القدماء الكتابة و الحساب) بتسجيل نتيجة الميزان بالقلم في سجله الأبدي.
و من الأجزاء الأساسية في كتاب الموتى دعاء خاص يدافع به الميت عن نفسه (ويسمى الاعتراف بالنفي)، حيث يقول :
“السلام عليك أيها الإله الأعظم إله الحق. لقد جئتك ياإلهي خاضعا لأشهد جلالك، جئتك ياإلهي متحليا بالحق، متخليا عن الباطل، فلم أظلم أحدا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أكن كاذبا ولم أكن لك عصيا، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده. إني (ياإلهي) لم أوجع ولم أبك أحدا، وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرضا على قتل، إني لم أسرق من المعابد خبزها ولم أرتكب الفحشاء ولم أدنس شيئا مقدسا، ولم أغتصب مالا حراما ولم أنتهك حرمة الأموات، إني لم أبع قمحا بثمن فاحش ولم أغش الكيل. أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر. وما دمت بريئا من الآثام، فاجعلني ياإلهي من الفائزين.”
يبين لنا كتاب الموتى لدي قدماء المصريين العقائد الدينية التي كانت تشغلهم طوال حياتهم. فلم يكن الموت لديهم جزءا لا ينفصل عن الحياة فقط وإنما كان لدى الناس آنذاك مفهوم آخر عن الموت والحياة الأخرى لا يختلف كثيرا عما نعتقده اليوم، و إن كنا نرى الموت كحتمية مرعبة نتحاور التفكير فيها و الحديث عنها، فقدان المصريين كانوا ينظرون إليه كجزء لا يتجزأ من مفهوم الحياة، و يستعدون له كما يجب للعبور نحو الحياة الأخروية، و هنا يأتي دور كتاب الموتى بما يحتويه من تعاويذ وتوجيهات للميت، تساعده على البعث والانتقال إلى الآخرة حيث يعيش فيها مثلما كان يعيش على الأرض ولكن بدون أمراض ولا تعب و لا كبر في السن، بل يكون في الآخرة رفيقا للآلهة يأكل ويشرب معهم في بعض المناسبات.
وهدف الميت كان الوصول إلى الحياة الأبدية في العالم الآخر، و رغم أن التصور لم يكن منطقيا لدى بعض الشعوب في تلك العصور، لكن تصور المعيشة في الآخرة لدى قدماء المصريين هو أن الميت الذي فعل صالحا في حياته وكان أمينا وصادقا يساعد الفقير والجوعان والعطشان، ويساعد الأرامل واليتامى، كان مثل هذا الإنسان يعيش طبقا لما أرادته له الآلهة من ” قواعد حياة سوية، ونظام عادل”، و من هنا يتك وزن قلبه و أعماله طبقا لما رمز له النظام المصري القديم ب “ماعت” آلهة الحق والعدل و النظام الكوني.
كتاب الموتي يحتوي على عدة فصول، تصف وتشير إلى الآتي :
– وقاية الميت من الشياطين والأرواح الشريرة والثعابين وغيرها.
– تعرف الميت عند البعث الطريق إلى الآخرة.
– تساعده على عبور بحر النار، والصعاب التي تهدده.
– تسمح له بالتردد بين العالم الأرضي والعالم الآخر.
– تساعده على الحياة في الآخرة.
-تساعده على الحصول على الماء والغذاء وتلقي الهبات والأضحية، وعطائها في العالم الآخر.
– تساعده على معرفة الأماكن في الآخرة، وتذكر أسماء الآلهة والأسماء الهامة (مثل إسم باب الآخرة).
– تساعده على معرفة الأبواب وأسمائها وتعاويذ فتحها والمرور منها والوصول إلى الآلهة وتعريف نفسه إليهم.
ورغم وجود بعض الإختلافات بين تصورنا في الحاضر عن الحياة الآخرة و رؤية الحضارات القديمة لمسألة الحياة بعد الموت، فلا نستطيع أن ننكر أنه توجد بين معتقداتنا ومعتقدات المصري القديم تماثلات كبيرة، ففي حين كان قدماء المصريين يعتقدون في البعث والمثول أمام هيئة قضائية مشكلة من 42 قاضيا يعترف الميت أمامهم بأنه لم يسرق، ولم يقتل أحد، ولم يكذب، ولم، ولم، وكل ما لم يكن يفعله من سيئات في حياته في الدنيا، نجد أن الديانات الإبراهيمية الثلاث التي ظهرت بعد الحضارة المصرية القديمة، تتفق بكل مذاهبها و توجهاتها على فكرة رئيسية يقوم عليها مبدأ الإيمان، و هي مسألة البعث بعد الموت و الحساب بين يدي الإله الخالق لكل شيء، و إذا ما أزيلت هاته الفكرة الأساسية، ينهار بناء الأديان كليا، و تنتفي الحاجة إلى الإيمان بالآلهة، ما دامت لن تعيد تصحيح الموازين المختلة في الحياة الدنيا و تقيم العدل المطلق و الأبدي في الآخرة و تكافئ الطيبين و تعاقب الأشرار.
كما ترون فإن التشابه بين الأساطير المصرية القديمة و ما تذكره الكتب المقدسة للديانات الإبراهيمية فيما يخص مفهوم الحياة الآخرة و البعث بعد الموت و الوقوف بين يدي الآلهة من أجل الحساب و المكافأة أو العقاب على ما سبق من حياة الإنسان، يصل إلى درجة من التشابه تتجاوز حدود التناص الأدبي، إذ يبدو من الواضح و المؤكد اليوم أن الأديان الإبراهيمية قد إقتبست هاته التفاصيل بحذافيرها لتغير فقط تعدد الآلهة بمفهوم التوحيد و تترك الباقي كما هو في غالبيتهم.
و يبقى السؤال الأزلي مطروحاً من جديد : من إقتبس من الآخر … ؟؟!!!
ملحوظة : بردية حونفر (Papyrus of Hunefer), تخص الكاتب الخاص للفرعون سيتي الأول و قد كان إسمه حونفر و يعتقد أن البردية تعود للعام 1300 قبل الميلاد، و هي موجودة حاليا في المتحف البريطاني.
مهدي بوعبيد
المغرب
“كتاب الموتى” .. الحضارة الفرعونية قامت على أساس التوحيد
كانت النظرية القديمة القائلة بأن الحضارة الفرعونية تعددية ووثنية تعتمد على وجود 2800 إله كما سبق القول، وأيضا من خلال قصة فرعون الذى اتضح أنه رمسيس الثاني بعدما كشفه العالم الفرنسي الشهير موريس بوكاى عندما حلل جثة رمسيس الثانى واكتشف بقايا الملح البحرى على جسده وأطلعه بعض أصدقائه على القصة القرآنية مما تسبب فى إسلامه بعد ذلك وخرج يروي عن الحقائق المذهلة التي اكتشفها بتدبر القصص القرآني وذلك فى كتابه الأشهر “القرآن والإنجيل والتوراة والعلم” وهو كتاب وثائقي رصين.
هذا عن المعلومات القديمة والمعروفة ..
لكن المعلومات الأكثر صحة والتي اتضحت بعد العثور على كتاب “الموتى” وهو أقدم كتاب فرعوني تمت ترجمته وفك رموزه ليتضح أن الحضارة المصرية قامت على أساس التوحيد وذلك بسبب الآتى ..
– أولا: كلمة نفر والتى وجدها الأثريون تصف 2800 تمثال لشخصيات متعددة لا تعنيي كلمة “إله” بل ترجمتها الحرفية “اليد القوية” أى أنها صفة وليست مسمى الهي..
وتتجلى الإثارة الحقيقية فى الصفات التعريفية المكتوبة إلى جوار تماثيل هذه الآلهة ولفتت نظر العديدين من الباحثين لقوة الربط الحادث بالأنبياء والمرسلين..
فهناك “أتوم” والتعريف به في كتاب الموتى هو أنه أول بشري نزل من السماء وأبو الحياة على الأرض.
وهناك ” أوزوريس” ووصفه يقول بأنه الذي علم الناس الكتابة والحياكة وسبل التسجيل.
وهناك “نوه” ووصفه بأنه الذى أنقذ البشرية من الغرق.
والأسماء والأوصاف شديدة الوضوح
– ثانيا: وهو الدليل القاطع على التوحيد لدى الفراعنة.. ما نقلته نصوص كتاب الموتى حيث قالت إحدى صحائفه بالحرف: “أنت الأول قبل كل شيئ وأنت الآخر وليس بعدك شيء”، “قال الله خلقت كل شيئ وحدى وليس بجواري أحد”.
كما يُــعــرّف كتاب الموتى المسلات أنها إشارة التوحيد وهو ما يتضح من إشارتها الدائمة للسماء، فضلا على أخناتون الملك الذى نادى بالتوحيد، ووجوده الغامض فى قلب التاريخ الفرعوني لا يمكن قبوله على أنه كان مصادفة ـــ على حد قول د. مصطفي محمود ــــ بل من المؤكد أنه جاء معبرا عن أصل شعبي حاربه الكهنة من قديم الزمن وسعوا فيه ومعهم الملوك لعبادة تماثيل الأنبياء والصالحين على النحو المعروف في سائر الحضارات وتكرر فى الجزيرة العربية كما تكرر فى الحضارات الصينية والهندية مع بوذا وكونفشيوس وهم من أهل التوحيد قبل الميلاد بثمانمائة عام وتوارثتهم الحضارات وعبدوهم فى النهاية.
يضاف إلى ذلك أن الاهتمام الفرعوني بحياة ما بعد الموت يصل حدا لا يمكن وجوده فى حضارة وثنية على الإطلاق، لاختلاف المبادئ نهائيا بين الأسلوبين فالوثنيون لا يعتقدون بالبعث وحياة الآخرة، وهو ما أخبرنا به القرآن الكريم أن حجة الأمم السابقة كانت دائما هى إنكار تصور بعث الموتى.
وهذا ما لا ينطبق على الحضارة الفرعونية حيث كان اهتمامهم بالبعث وحياة الآخرة أكثر من اهتمامهم بحياتهم التقليدية، ولابد لهذه المعتقدات من أصول تاريخية لا نعرفها فى التاريخ البعيد، خاصة وأن القرآن الكريم كان حاسما في أن كل أمة من الأمم تتابعت فيها الرسل والأنبياء ولكن القرآن اقتصر فى الذكر فقط على 25 نبي ورسول منهم بينما ثبت في الحديث الصحيح أن عدد الرسل 314 رسول بينما عدد الأنبياء 124 ألف نبي!!
وهذا يشير إلى أن ما نعرفه من تاريخ البشرية على الأرض لا يساوي سطرا فى كتاب التاريخ المجهول!
ويبدو الأمر أكثر وضوحا عندما نتأمل التحقيق القرآنى لقصة فرعون في قوله تعالى {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [غافر: 28] وهو التعبير القاطع عن وجود الإيمان داخل الشعب وخروج الفئة الضالة بسبب أهواء الحكم وحصرها في الكهنة والملوك،وهو ما أكده أيضا موقف السحرة الذين واجهوا موسي عليه السلام فآمنوا به ورفضوا التراجع أمام بطش فرعون الذى مزق أجسادهم وألقاها في نقاط مختلفة من صعيد مصر وكان هؤلاء السحرة هم “أسيوط ـ إسنا ـ أرمنت ــ سوهاج ــ أخميم” ولا زالت البقاع التى أُلقيت فيها تلك الجثث تحمل أسماء هؤلاء السحرة حيث تعد “أسيوط” قلب محافظات الصعيد وعلى حدودها محافظة “سوهاج”، و”أخميم” هي أشهر مدن محافظة سوهاج، و”إسنا” و”أرمنت” مدينتين متجاورتين تقعان جنوب الأقصر بأربعين كيلومترا تقريبا.
هذا بخلاف موقف المصريين العوام من موسي عليه السلام وقومه حيث أمدوهم بما أعانهم على الرحيل.
وآخر نقطة تخص هذا الأمر هي أن جميع الأمم السالفة التى طغت وبغت أرسل الله عز وجل إليها ما قضي عليها قضاء مبرما، مثل عاد وثمود وإرم والنمروذ وقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم.. بينما ظلت الحضارة الفرعونية بشعبها وعوامها بمنأى عن أي عقاب الهي عام، أو إهلاك بطريقة تامة، واقتصر عقاب الغرق على فرعون وحاشيته وجنوده ممن اتبعوه وهذا مما يؤكد على استمرار التوحيد فى المصريين منذ قدوم إدريس عليه السلام..
والبدايات المتشابهة تؤدى للنهايات المتشابهة فكما استقبل المصريون دعوة إدريس وموسي عليهما السلام استقبلوا المسيحية بالبشر واعتنقوها وكذلك عندما جاء عمرو بن العاص وعلى أبواب سيناء استقبلته قبائل البدو بالترحاب وانضمت جيوشهم لجيشه وقادهم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وعلمهم الإسلام لينطلقوا مخلصين مصر من يد الرومان لتنشأ الحضارة الإسلامية بمصر بتأييد كاسح من جموع القبط المصريين.
هذه هى الحضارة الفرعونية التى نبذ البعض منا أسباب الفخر بها والبحث فيها باعتبارها حضارة وثنية دون أن نكلف أنفسنا ساعات قليلة لنتبصر فيها تاريخ بلادنا التي احتفي بها الغرباء وأهملها الأبناء.
ويحز فى نفس كل إنسان أن يخلط البعض بين مصر كدولة وكشعب وبين حكوماتها أو حكامها..
فمسألة الإنتماء لنظام الحكم هذه يسميها الناس في العادة نفاقا للحكام وتحت تأثير المصالح، وهي كذلك بالفعل، وبالتالي فإن انتقاد الحكام مهما بلغت قسوته فهو أقل القليل فى مواجهة مظالمهم وهو أمر مطلوب فى كل عصر.
أما التنكر للبلد ذاته كبلد، فهذه الخيانة التي لا تحتملها نظرية وجهات النظر!
وقد ذكرني موقف بعض المتنكرين أو الساخرين من البلد وهم من أبنائها بمقولة أحد كبار السياسيين السابقين التي قالها لجمال مبارك إبان حقبة التجهيز التوريث قبل الإطاحة بهم، حيث قال له: إنك وأبيك تحكمون بلدا لا تعرفون قيمته..
وهذا صحيح تماما، ومن أغرب الغرائب أن ما تفردت به مصر من صفات لم نسمعه من أبنائها، بل الإشادة والإنتماء كان من غير أبنائها بل ومن أعدائها أيضا!
فمن ناحية العرب أنفسهم فإن كل قطر عربي يري فى مصر ما لا يراه بعض أبنائها، وقديما وحديثا سمعنا من رموز المفكرين والحكام العرب مشاعر إنتماء حقيقية وإدراك تام لقيمة أرض الكنانة وهي من السعة بحيث لا يمكن أن يحتويها مقال أو كتاب واحد، ويكفي أن نعلم أن من أطلق على مصر لقبها الشهير (أم الدنيا) كان الرحالة ابن بطوطة وهو الرحالة المغربي الشهير، والمؤرخون العرب هم من أطلقوا عليها اسم (المحروسة) بكل ما في الكلمة من دلالة عميقة.
وقد وصف أحد المفكرين العرب مصر بوصف والله ما سمعته من أحد قبله رغم أنها صفة واردة فى القرآن إلا أنها لم تلفت نظرنا بمثل ما قاله فقد عقب هذا الكاتب قائلا: “كيف لا نحب مصر أيها الأحبة وهى البلد الوحيد التى تجلى رب العالمين على بقعة من أرضها!!”.
والحديث فى هذا الجانب عن فضائل مصر يضيق به المقام ومن أشرف الفضائل ما ورد في القرآن الكريم تصريحا وتعريضا وتخصيصا، وفى السنة النبوية فضلا على أقوال الصحابة والعلماء عبر العصور ..
أما أعداؤها ..
فقد شهد لها من أباطرة وحكام العالم من حاربوها وحاولوا احتلالها، هي أكثر البلدان التى حاول الغرب غزوها، وهم فى محاولتهم الغزو ما سعوا إلا إلى ضمها طمعا فيها وليس عداء أو رغبة فى التدمير!
ولهذا جاءا الإسكندر وتودد للمصريين باعتناق عقيدتهم وأغرى الكهنة بتنصيبه إبنا لآمون، وجاء نابليون وتودد بكل السبل لشيوخ الأزهر ونزل لمصر بكل مخترعات فرنسا الحديثة، وحاول البريطانيون عبر ثمانين عاما استمالة الشعب المصري بأن نقلوا كل التكنولوجيا المتقدمة إليها فكان خط السك الحديدة المصري ثاني خط فى العالم، وكذلك خطوط التلفونات والمواصلات، ورغم كل هذه المحاولات لم ينجح محتل واحد فى إقناع المصريين بكف المقاومة، ولم يسمح المصريون لحاكم من خارجها بحكمهم إلا إذا كان هذا الحاكم جاء مصر داعيا لعقيدة التوحيد، ولهذا سارع المصريون باعتناق المسيحية والإسلام فور اقتناعهم بصدق هذه العقائد..
القصد من ذلك أن التغنى بفضائل مصر وحبها ليس كما يروج البعض هو من الشعارات أو استعادة التاريخ، بل هو من صميم معالجة الواقع، فالتغنى السلبي بمصر هو التواكل المرفوض أما إدراك تاريخها واستنباط أحداثه ودروسه لاستعادة ريادتها فهذا هو العلاج الناجع الذى كانت مصر به تنهض من كافة كبواتها، فالاعتزاز بالانتماء للدين والوطن دافع للترقي ومماثلة الأسلاف..
نخلص من هذا إلى أن تاريخ الحضارة الفرعونية وتاريخ مصر بعموم ــ وهي أقدم دولة نظامية فى العالم ــ تحمل حضارتها كمّا معرفيا فياضا أسس الغرب عليه جامعات بأكملها تعمل فى هذا المجال منذ قرن كامل، وتستخرج منه في كل يوم اكتشافا جديدا وعندما فتح المسلمون مصر ــ ورغم قلة الإمكانيات ــ إلا أنهم كتبوا ورصدوا وأضافوا إلى المكتبة العربية دراسات شيقة عن الحضارات السابقة.
مصر تايمز