لا أحد يكره التنمية. أو أن تكون بلده محطةً للاستثمار الأجنبي. إلا «موانئ دبي العالمية». مُحاطةٌ بالتساؤلات أينما حلّت. محفوفة بالسخط أينما ألقت مرساتها. لا يختلف في ذلك مواطنو الدولة الغنية عن الدولة الفقيرة. أثارت المشاكل في اليمن، وكذلك فعلت في الولايات المُتحدة.
قبل 20 عامًا من الآن أدركت الإمارات أن النفط لا يدوم. وأن المعتمد عليه إنما يقف على رمال مُتحركة. حينها بدأت الإمارات مشروعًا ضخمًا. بعد 10 سنوات من تأسيسها أصبحت شركة «موانئ دبي العالمية» رابع أكبر شركة موانئ بالعالم. لكن خريطة تمدد المشروع، والشبهات المُثارة حوله تطرح تساؤلًا. هل الهدف من «موانئ دبي» هو التفرد الاقتصادي للإمارات فحسب. أم أن هناك هدفًا سياسيًا خفيًّا وراء ذلك المشروع الطموح.
نتولى إدارة الموانئ الكبرى، نجعلها أطلالًا. بدلًا من تطوير موانئ دبي كي تحافظ على صدارتها، نُدمر منافسينا. كلفة التخريب أقل من التطوير، والنتيجة النهائية واحدة. دبي في المركز الأول، ومنافسوها صاروا أشباحًا من الماضي. لكن الاعتماد على أيادي أهل البلد في تخريب موانئهم يكلف مالًا ووقتًا. إذن، نتولى عنهم تلك المهمة. بهذه العبارات المقتضبة يمكن تلخيص ذلك المشروع «الطموح».
ميناء عدن: لؤلؤة اغتالت دبي بريقها
كان ذات مرة ثاني ميناء في العالم، بعد نيويورك، لتزويد السفن بالوقود. المنافس الأشد والأقرب لموانئ دبي. ولمزيد من التطوير وقعت شركة «موانئ دبي العالمية» في 2008 عقد إدارته لمدة 25 عامًا. حصل المخلوع «على عبدالله صالح» على 600 مليون دولار أمريكي حصته فقط من التوقيع. فعرض دبي كان أقل العروض المطروحة، ورغم ذلك فازت بالإدارة.
لا شراء لقطع الغيار التي يحتاجها الميناء. اختفاء أجهزة الاتصال اللاسلكية من الميناء، مما يعني كوارث لعدم تنسيق العمل بين الموظفين. رفع تعريفة الدخول 80% كتنفيرٍ واضحٍ للسفن. بيعت معدات الميناء الصالحة للاستخدام باعتبارها «خردة». تجميد تعسفي لرواتب الموظفين بهدف إجبارهم على ترك أعمالهم.
تحول ميناء عدن إلى ميناء «ترانزيت». تُفرغ فيه السفن الكبيرة في حاويات أصغر. ثم تشق عباب البحر نحو ميناء «جبل علي» درة تاج الموانئ الإماراتية. قامت الشركات المُتعاملة مع ميناء عدن بتحويل سفنها إلى ميناء جيبوتي. للصدفة السعيدة، أو للتخطيط المُحكم، فإن الإمارات تمتلك ميناء جيبوتي أيضًا.
ثار الشعب اليمني لما لحقه الفقر جراء خراب الميناء. وبعد الثورة طالب وزير النقل الجديد الإمارات بالالتزام ببنود العقد المُجحفة من الأساس. ماطلت دبي كثيرًا، ونجا وزير النقل من ثلاث محاولات اغتيال. فلم تجد مؤسسة خليج عدن بدًا من إلغاء الاتفاقية مع «موانئ دبي». دار سجال قضائي بين الدولتين. مالت الكفة إلى اليمن بالحق حينًا، وإلى الإمارات بالرشاوى أحيانًا.
وعادت إليه الإمارات مرةً أخرى تحت مسمى «التحالف». وبالقوة العسكرية لا التحايل الورقي فرضت وصايتها عليه. آخر ما جرى كان في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. منعت الإمارات سفنيةً صينيةً من إفراغ حمولتها. ثار الموظفون لهذا التصرف الفج. أُجبرت قوات التحالف على السماح للسفينة بإفراغ الحمولة. لتستمر نيران الجحيم الإماراتي في التهام المكانة التاريخية والطبيعية لميناء عدن.
الإمارات أولًا وعاشرًا، وشعوب «القرن الإفريقي» آخرًا
فجأةً تقوم حكومة السودان بحملة غريبة على عمال ميناء «بورتسودان». على مدار أربعة أشهر عانى الميناء إهمالًا متعمدًا. تهجر السفنُ الميناء، تتجه إلى جيبوتي بدلًا منه. إذا عُرف السبب بطل العجب. حكومة السودان ترغب بتسليم المنفذ البحري الوحيد للدولة إلى شركة «موانئ دبي العالمية» لمدة 50 عامًا. وما يُؤكد الترتيب المُسبق أن الإمارات اشترطت استلام الميناء خاليًا من العمالة السودانية. وخاليًا كذلك من الشركة الفلبينيّة التي تديره حاليًا، التي اقترحت حكومة السودان على الإمارات أن تديره مناصفةً معها. الإمارات رفضت هذا العرض بالتأكيد، لكنّها لم تنس الميناء.
في 17 سبتمبر/أيلول 2017، اضطر وفد إماراتي إلى مغادرة الميناء مطرودًا. طردهم عمال الميناء، إذ اعتبروا وجودهم مُنذرًا بالشر. على النقيض قطر تفرد ذراعيها للسودان، فيرتمي السودان فرحًا. خابت مساعي الإمارات للأبد. وقعت الحكومة السودانية مع قطر اتفاقًا لإنشاء أكبر ميناء للحاويات على البحر الأحمر. مما يعني تحديًا جريئًا للإمارات، ولمولودها المُدلل ميناء «جبل علي».
تغادر السفن ميناء عدن الخَرب. ولا تجد المناخ مستقرًا بعد في السودان. أقرب ما تلجأ إليه موانئ جيبوتي. لم يفت الإمارات هذا. في 2005 حصلت على امتياز إدارة ميناء جيبوتي الرئيسي لمدة 50 عامًا. ثم في 2014 بعد تدهور أوضاع الميناء فُسخ التعاقد من قبل حكومة جيبوتي. كانت حجة الحكومة أن موانئ دبي قدمت رشاوى لرئيس المنطقة الحرة لتفوز بحق الامتياز. وفي 2016 رفضت محكمة لندن للتحكيم الدولي هذا الفصل. وأُجبرت جيوتي على الخضوع لسيطرة الإمارات، ودفع تكاليف الدعوى.
وفي خضم عاصفة الحزم، طُرد جنود إماراتيون وسعوديون من قاعدة جيبوتية. فبرزت إريتريا في المشهد، وسال عليها اللعاب الإماراتي. قامت الإمارات باستئجار ميناء «عصب» لمدة 30 عامًا. وجاء مع الميناء كعرض إضافي المطار المجاور له بمدرج يبلغ طوله 3500 كيلو متر. الميناء والمطار شكلا قاعدةً فعالةً للغاية في عملية «السهم الذهبي» عام 2015. وبضم إريتريا إلى القطيع، خضعت إثيوبيا كذلك. فبعد استقلال إريتريا صارت إثيوبيا دولةً غير ساحلية متطفلة على موانئ إريتريا.
الصومال من الدول التي طالتها لعنة «موانئ دبي». دولة «أرض الصومال» جزء منفصل عن الصومال. يحاول انتزاع اعتراف دولي بأي ثمن. تحدثت الإمارات عن ضرورة الوحدة بين شطري البلد. لكنّها منحت مباركتها للتقسيم عبر شراء حق امتياز ميناء «بربرة» لمدة 30 عامًا. أرادت الإمارات بهذا الميناء أن تناطح تركيا. تركيا تدير موانئ الصومال لمدة 20 عامًا.
لم تكتف الإمارات باعترافها الضمني بالتقسيم. بل تتكفل بأتعاب هيئة المرافعة عن الطرف الصومالي، في نزاعهم مع كينيا بخصوص ساحل «كمايو». الساحل الغنيّ بالثروات والموارد الطبيعية. لكنّه كذلك لم يشهد أي عمليات ترميم منذ 20 عامًا، و80% من مرافقه مُعطلة.
قناة السويس تحت سيف دبي
أعلن الرئيس المصري «عبدالفتاح السيسي» عن تعاون مصر مع هيئة «موانئ دبي العالمية». يشمل التعاون إدارة دبي لميناء العين السخنة. المفاجئ أن دبي تدير ميناء العين السخنة منذ 2008. وتمتلك 90% من أسهم الشركة المسئولة عن إدارته مقابل 670 مليون دولار تُدفع للحكومة المصرية. وبعد مرور 9 سنوات لم يشهد الميناء تحسنًا قط. بل على النقيض، انخفضت طاقته من 570 ألف حاوية إلى 510 آلاف فقط. كان التعاقد من البداية على أساس أن يرتفع العدد إلى 2 مليون حاوية.
العقد الجديد يُسلّم قناة السويس خالصةً إلى منافسها الأساسيّ. مشاريع تنمية قناة السويس تهدف دائمًا إلى منافسة ميناء «جبل علي» الإماراتي. هل تعلم أن جميع السفن القادمة من الهند والصين تذهب إلى «جبل علي» لتحصل على خدمات الوقود وغيرها. بعدها تعود إلى قناة السويس. السفن لا تذهب مباشرة للقناة، رغم أنّه الأقرب والأوفر. لكن حرصت الإمارات بشدة ألا توجد مثل هذه الخدمات في قناة السويس. فكيف ستتولى دبي في 2017 إنشاء مثل هذه الخدمات في قناة السويس الآن؟
ميناء «جبل علي» يستوعب 22.1 مليون حاوية. ويعمل به 144 ألف موظف. يُدر ما يقارب الـ 20 مليار دولار من خدمات السفن فحسب. ويبدو أن الإمارات تعمل بجهدٍ حثيثٍ أنْ يكون هو الميناء الأول عالميًا، والوحيد أفريقيًا وعربيًا.
نظرية «الحزام والطريق»
أجل، تريد الإمارات أن تُبقى موانئها الخاصة في المقدمة، لكن ألهذا السبب فقط تمارس الإمارات سياسة التخريب هذه. بالطبع لا. إدارة أكثر من 70 ميناءً حول العالم، بعضهم من أنجح موانئ العالم، بعيدًا عن الموانئ العربية والأفريقية، تمنح الإمارات حصانةً من نوع خاص. حصانة المال، وورقة ضغط لإسكات المعارض لنهج الإمارات. فإذا أرادت دولة أن تدعو الإمارات إلى الكف عن ملاحقة المعارضين، أو إلى إنشاء أحزاب حقيقية، أو تخفيف الضغط على التعددية السياسية، فيمكن للإمارات إسكاتها بكل سهولة، وبغاية النعومة.
أضف أن تلك الموانئ لم يقتصر استخدام الإمارات لها كموانئ. استخدمتها الإمارات كـ«قواعد عسكرية» تنطلق منها قواتها في حربها ضد اليمن. ولن تتورع عن فعل ذلك مع أي دولة أخرى، ولو كانت الدولة صاحبة الميناء، إذا دعت الحاجة.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن معظم تلك الموانئ في دولٍ غير خاضعة للنفوذ السعودي، فتكون الإمارات هى القوة الكبيرة والوحيدة. مما يعني أن ولاء تلك الموانئ ليس مُقسمًا بين الإمارات وأي شريك آخر. فالإمارات أذكى من أن تركن إلى سنوات العسل بينها وبين السعودية. ولعل تلك الموانئ هي عدتها لهزيمة السعودية دوليًا وعسكريًا إذا اضطرت الظروفُ الأصدقاء إلى القتال.
ربما لهذا حرصت الإمارات على أن تستحوذ على شركة «بي أند أو» البريطانية. الشركة التي تدير 22 ميناءً أمريكيًا، منهم ستة موانئ أمريكية رئيسية. الصفقة التي خرج جورج بوش الرئيس الأمريكي آنذاك مدافعًا عنها. ولعل ما رآه الأمريكيون من تأثير الإمارات على البلاد التي تحل عليها، هو ما جعل الكونجرس يقف لها بالمرصاد. وانتفض الأمريكيون رافضين لها. رُفعت دعاوى قضائية في لندن، نيويورك، ونيوجيرسي من أجل إيقاف تلك العملية. الأمر الذي دفع بوش إلى الإعلان صراحةً أنّه لن يتردد عن استخدام حق النقض/الفيتو ضد أي تحرك من شأنه عرقلة الصفقة. لكن باءت الصفقة بالفشل في النهاية.
حتى إذا اقتصرت الإمارات على دول القرن الأفريقي فقط. فإنها تصير متحكمةً في مضيق باب المندب، مما يعني تحكمها منفردةً في 12% من التجارة العالمية.
المستقبل يتجه نحو نظرية «الحزام والطريق» التي أرساها الرئيس الصيني «شي جين ينغ» في 2013. طريق واحد يصل آسيا وأوروبا وأفريقيا. شاركت فيه العديد من الدول وقاطعته أمريكا نهائيًا.
حرب باردة جديدة بين الولايات المُتحدة والصين هذه المرة. وبما تملكه الإمارات من موانئ أضحت حليفًا لا يُستهان به لمن تميل إليه. إمارات اليوم تخطب ود الأقوياء. إمارات الغد يُخطب ودّها من أساتذة العالم. طموح شركة موانئ دبي العالمية يتعدى التأثير في الأحداث إلى الرغبة في صناعتها. وتبدو الإمارات راغبةً في الخروج من ضيق الخليج إلى سعة كوكب الأرض بأكمله. لا يهم الثمن، حتى لو كان دولتك ودولتي.
آخر تعديل : 30/11/2017
إضاءات
https://www.ida2at.com/dp-world-how-uae-assassinate-nations/