قبيل انقضاء القرن الخامس الهجري كان الوجود الإسلامي في الأندلس قد صار مهددا إلى حد كبير، كان قد مر زمن بعيد على نهاية حكم الخلافة الأموية، بدولتيها الأولى والثانية -التي أسسها عبد الرحمن الداخل- وبدأ العصر الذي سمي فيما بعد بعصر ملوك الطوائف، وهو عصر ضعف وانحلال وانقسام ساد بين ثلة من الحكام انفرد كل منهم بإقليم من أقاليم الأندلس، وأعلن نفسه ملكا عليه؛ ليبدأ النزاع بين هؤلاء الحكام مما جعلهم لا يستنكفون أن يستعينوا بالإسبان على بعضهم البعض.
وبالقطع فإن العدو الإسباني كان يترصد تلك الخلافات ويزكيها، ويتحين الفرصة السانحة للانقضاض على الأضعف من تلك الممالك المتشرذمة؛ دون أن يخاف هبة غيرها من الممالك الإسلامية للذود عنها.
على هذا النحو سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، الذي استخدم سياسة الترهيب مع البعض، وأبرم الاتفاقيات والمعاهدات مع البعض الآخر، ووصل الأمر ببعض هؤلاء الحكام المتخاذلين إلى دفع الأموال له بهدف كف يده عما تحت أيديهم من المدن والبلاد.
في هذه الظروف البالغة السوء، أدرك ألفونسو أن الوقت قد حان لاستئصال الوجود الإسلامي من الأندلس بكاملها؛ فأرسل إلى البابا يطلب منه الدعوة لحرب صليبية لتطهير شبه الجزيرة الأيبيرية من المسلمين، وفور وصول الرسالة سارع البابا إلى دعوة القادرين على حمل السلاح في ربوع أوروبا إلى الانضمام لجيش ألفونسو الذي كان يرسل تهديداته أيضا لملوك أوروبا وأمرائها بأنه ربما سمح لجيش إسلامي بعبور جبال البرانس باتجاه بلدانهم، إذا هم لم يبرهنوا له على استجابة جادة لمطالبه.
كان المعتمد بن عباد، قد أبرم اتفاقية مع ملك قشتالة، تنص على ترك طليطلة دون الدفاع عنها في مقابل أن يترك ألفونسوا للمعتمد ضم غرناطة إلى مملكته نظير مبلغ من المال يدفع سنويا؛ إلا أن نهم ألفونسو نحو التوسع في ضم المدن الأندلسية جعل المعتمد يندم على هذا الاتفاق، وكان أن أرسل ألفونسو إلى المعتمد صيرفيا يهوديا يدعى ابن سالب، ومعه وفد من رجال الدولة ونحو خمسمائة فارس لتحصيل المبالغ المقررة سنويا، غير أن الصيرفي تشكك في وزن الذهب ودرجة نقائه، وللحقيقة فإن موقفا سابقا ربما يكون قد جعل اليهودي ينحو ذلك النحو، إذ اضطر المعتمد قبل ذلك بسنوات لتزييف النقود لدفع مبلغ كبير من المال إلى ملك برشلونة نظير إطلاق سراح ابنه الرشيد الذي كان قد أخذ كرهينة في مغامرة عسكرية فاشلة ورط المعتمد فيها وزيره ابن عمار!
ثارت ثائرة المعتمد لتطاول ذلك اليهودي، كما أن طلبات أخرى لألفونسو لا تتسم باللياقة كطلب منحه بعض القرى الحدودية، والسماح لزوجته أن تلد طفلها في جامع قرطبة -كان كنيسة فيما سبق- تحقيقا لوصية أحد القساوسة، مع عدم التزامه بما اتفق عليه سابقا من عدم ضم المزيد من المدن الإسلامية، كل ذلك كان أوغر عليه صدر المعتمد لدرجة جعلته يأمر بقتل كل من كان في وفد ألفونسو وطرد السفير.
كان ألفونسو قد تحرك بجيوشه بالفعل صوب قرطبة، فلما بلغه ما حدث حوّل وجهته نحو إشبيلية، وقام جنوده بسلب المدن ونهبها وتدميرها وقتل أهلها طوال الطريق حتى وصل الحدود الجنوبية لشبه الجزيرة.
أيقن المعتمد أن المواجهة الحربية مع ألفونسو صارت حتمية بعد أن أغار الأخير على إشبيلية وحاصرها لثلاثة أيام ثم رجع عنها بعد أن أرسل رسالة إلى المعتمد تقطر تهكما قال فيها: “كَثُرَ -بطول مقامي- في مجلسي الذباب، واشتدَّ عليّ الحرّ، فأتْحِفْني من قصرك بمروحة أُروِّح بها عن نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي”. وعندما وصلت الرسالة المعتمد قرأها وغضب لما فيها من تطاول، فكتب على ظهرها” قرأت كتابك، وفهمت خُيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوِح من الجلود اللمطية تُروِّح منك لا تروح عليك إن شاء الله تعالى”، وكان أن ارتعب ألفونسو عندما قرأ الرد، إذ فهم ما يرمي إليه المعتمد.
قرر المعتمد الدعوة إلى اجتماع عاجل لملوك الطوائف؛ ليطلعهم على الوضع الراهن ومدى خطورته وبحث إمكانية المواجهة مع ألفونسو وحلفائه؛ فلما رأى المعتمد منهم التخاذل والخذلان، عرض عليهم أن يطلبوا العون من أمير دولة المرابطين في مراكش يوسف بن تاشفين؛ فاعترضوا مخافة أن ينفرد وحده بحكم الأندلس إذا ما استطاع القضاء على خطر ألفونسو ومن معه؛ حتى أن الرشيد بن المعتمد كان من ضمن المعترضين؛ إذ قال لأبيه: “يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدّد شملنا” فقال المعتمد: “أي بني والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت الأندلس دار كفر، ولا تركتها للنصارى فتقوم اللعنة عليّ في الإسلام مثلما قامت على غيري”، ثم وجه حديثه لملوك الطوائف قائلا: “يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ألفونسو؛ فيمكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن ألا يفعل، فهذه حالة شك، وأما حالة اليقين: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى ألفونسو أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟! ثم قال قولته المشهورة:” لئن أرعى الإبل عند ابن تاشفين؛ أحب إلىّ من رعي الخنازير عند ألفونسو”.
في نهاية الاجتماع، اتفق الجمع على الاستعانة بابن تاشفين فأرسل إليه المعتمد، وقيل إنه رحل إليه بنفسه، فأجاب ابن تاشفين بقوله: “أنا أول منتدب لنصرة هذا الدين”.
تجهز جيش المرابطين للقتال، وعبر البحر إلى الجزيرة الخضراء التي أمر المعتمد بتسليمها للمرابطين لتكون قاعدة لهم، تحوي أقوات الجند وذخائرهم، وتكون لهم موئلا إذا دارت الدائرة عليهم؛ لذلك أمر ابن تاشفين بتحصينها على أفضل ما يكون، كما ترك عليها حامية من خيرة رجاله، في هذه الأثناء كان جيش الأندلس بقيادة المعتمد بن عباد قد أتم استعداداته للمعركة المصيرية، وتعهد ملوك الطوائف بتقديم كل ما يلزم الجيش من مؤن وعتاد، ثم كان أن وصل جيش المرابطين إلى إشبيلية وظل بها لثمانية أيام حتى التأم شمل الجيشين وبدآ بالتحرك في اتجاه بطليوس.
في تلك الفترة كان ألفونسو يعيث في الأندلس فسادا، فقام بضم بلنسية وألمريا، وبلغ نابار بالقرب من غرناطة، كما تحالف في ذات الأثناء مع ملك أراجون وكونت برشلونة، وبالقرب من أسوار سرقسطة جاءته الأنباء بوصول جيش المرابطين ففزع، وعاد إلى طليطلة خشية أن تسقط في أيدي المسلمين.
جمع ألفونسو جيشا كبيرا تضاربت الأقوال في عدده، وإن كانت أصح الأقوال تشير إلى أنه جاوز المائة ألف من المشاة معهم ثمانون ألفا من الفرسان، نصفهم من ذوي العدد الثقيلة ، بينما تشير تقديرات جيش المسلمين بقسميه إلى نحو الخمسين ألفا.
وقيل إن ألفونسو وابن تاشفين قد تكاتبا وتوعد أحدهما الآخر، وكان ألفونسو قد رأى في المنام أنه يركب فيلا، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص تلك الرؤيا على رجاله فما فسرها أحد، ثم إنهم أتوه برجل مسلم ممن يقومون بتعبير الرؤيا فاستعفاه من تعبيرها؛ فلم يعفه فقال له الرجل: “تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}، وقوله تعالى: }فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، ويقتضي ذلك هلاك هذا الجيش الذي تجمعه”.
تواجه الجيشان الإسباني والأندلسي في يوم الجمعة في العشر الأوائل من رمضان عام 479 على بعض الروايات، وإن كان المرجح أن المعركة كانت في الثاني عشر من رجب من العام نفسه، بينما احتمت قوات المرابطين بتلة على مقربة من ميدان المعركة الذي كان يعرف بسهل الزلاقة، وقيل إنه كان يسمى بسهل “سكر إلياس”، أما تسمية الزلاقة فأتت من كون أرضه صارت زلقة لكثرة ما أريق فيها من الدماء في ذلك اليوم المشهود.
تقول الرواية إن الجيشين لبثا متواجهين لثلاثة أيام دون قتال، ثم كان أن كاتب ابن تاشفين ألفونسو يدعوه إلى الإسلام أو دفع الجزية وإلا فالقتال، فأجابه إلى الأخيرة، وطلب تأجيل القتال إلي يوم الاثنين بعد انقضاء أيام الجمعة وهو يوم المسلمين، والسبت وهو يوم اليهود وكانوا وزراءه ومنهم خدم الجيش، والأحد وهو يوم النصارى، وكان ألفونسو يرمي من ذلك إلى خداع المسلمين ومباغتتهم أثناء صلاة الجمعة؛ لكن حيلته لم تنطل على المعتمد الذي أمر جنوده بالتجهز للقتال، كما أرسل إلى ابن تاشفين يحذره غدر ألفونسو.
وحدث ما كان متوقعا إذ هجم الإسبان على المسلمين أثناء الصلاة، لكن المعتمد كان قد أعد الخطة لمواجهة ذلك، إذ كان على رأس الفرسان بنفسه مستعدا لصد هذا الهجوم الكاسح، كما أخذ المرابطون سلاحهم وركبوا الخيل ودخلوا ببسالة في حومة الوغى.
أظهر المعتمد في هذه المعركة بطولة عظيمة وثباتا قلما نجد له نظيرا، وروي أن جيادا ثلاثة من خيرة الجياد هلكت من تحته في صولاته وجولاته مع جيش الأعداء، كما كان للنظام الدقيق الذي قاتل به جيش المرابطين أبلغ الأثر في إنهاك قوى الجيش الإسباني، وإصابة جنوده باليأس من تحقيق النصر.
ومع حلول ليل اليوم الثالث للمعركة كان سهل الزلاقة قد غُطِّي تماما بالجثث، بينما كان ألفونسو السادس ملك قشتالة يهرب في حراسة نحو خمسمائة من فرسانه بعد أن كاد يقتل؛ ولكن الطعنة أصابت فخذه.
في هذه المعركة أبيد الجيش الإسباني تقريبا، كما كان عدد شهداء جيش المسلمين -بقسميه- كبيرا جدا، إلا أن هذا الانتصار أعطى قبلة الحياة للوجود الإسلامي في الأندلس، والذي استمر بعد ذلك لنحو أربعة قرون، كما أذن هذا الانتصار بقيام دولة المرابطين في الأندلس، ثم دولة الموحدين من بعدها، كما قضى النصر على الخلافات والنزاعات بين ملوك الطوائف حتى حين.
ولقد طارت أخبار تلك المعركة الخالدة إلى أقطار العالم الإسلامي، فكان لذلك بالغ الأثر في ارتفاع معنويات المسلمين وتقدمهم في كافة المواجهات مع أعدائهم، كما كان لانكسار جيش ألفونسو المدعوم ببركات البابا وجنود أوروبا، أثر بالغ السوء على كافة أرجاء العالم المسيحي.