من هنا انكب يزيد على اللذات كافة، فاتخذ من إسرافه في الفسق والمجون قاعدة لإدارة البلاد بالسياسة الجالسة، فبدأ خلافته بعشق سلامه وأنهاها بعشق جارية أخرى اسمها حبابة!

كان يومًا في مجلس أنس وطرب، فغنته حبابة ثم غنته سلامه لتلعب برأسه بنت الحان فيشارك الندمان ويتسرى بالقيان، دون تفرقة بين جارية أو سلطان فيبلغون الحد الذي يسمح برفع الكلفة دون إباء، إلى أن تناديه جارية لعوب وهم يتضاحكون بـ: أمير المؤمنين أو خليفة المسلمين، فاستطارت به اللذه فتهالك عليها إلى أن بلغ مداها فقال: أريد أن أطير، فتقول له حبابة: يا مولاي فعلى من تدع الأمة وتدعنا، فيقول إليكما، كما ذكر المختار الخارجي في خطبة له، تناول فيها بني أمية، وفي هذا يذكر المسعودي أن أبا حمزة الخارجي قال: أقعد يزيد حبّابة عن يمينه وسلامه عن يساره، وقال: أريد أن أطير، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه.

دعك من الخليفة الذي يريد أن يطير، ولنعرج قليلًا على الخليفة الذي سبقه مباشرة وهو عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلًا ورحمة، ولم يلبث سوى عامين ومات مسمومًا لمجرد أن شاعت الأخبار أن عمر ينتوي خلع يزيد من ولاية العهد، أولًا لأنه كان يريد أن يترك الأمر شورى بين المسلمين، وثانيًا لأنه كان قلقًا متوجسًا من تولي يزيد خاصة خلافة المسلمين، وقد كان محقًّا في هذا وذاك، فما مصلحة ملك اجتمع الجميع على عدله وصلاحه في عزل يزيد إلَّا إذا كان فاسدًا بحق ولا يصلح للخلافة؟! إذن كان عمر بن عبد العزيز بمنهجه القويم في الخلافة وسلوكه المستقيم، يريد أن يرسي أسلوبًا جديدًا قائمًا على الشورى التي تتحقق بالعدل والرحمة والصلاح والتقوى.

وعلى الرغم من المنهج الذي أرساه عمر بن عبد العزيز في الخلافة إلَّا أنه لم يكن يعني شيئًا بالنسبة ليزيد، حيث يذكر سليم بن بشير: كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك حين احتضر: سلام عليك أما بعد فإني لا أراني إلَّا لملبي فالله الله في أمة محمد فإنك تدع الدنيا لمن لا يحمدك وتقضي إلى من لا يعذرك والسلام. إلَّا أن يزيد خان سياسة عمر بن عبد العزيز فور توليه، حيث عزل ولاة الأقاليم الذين عينهم عمر بن عبد العزيز رغم أنهم مشهود لهم بالكفاءة، ليظل عمر استثناءً يثبت القاعدة في الخلافة الأموية، التي اغتصبت الخلافة الإسلامية فحطت من الأخلاق العامة والخاصة وطالت الرعية بالفساد والإفساد، وأملت عليهم ألوانًا من الغدر والقتل والظلم والمكر والسعي إلى المجد الذاتي والمصلحة الشخصية، وبذلك تظهر مساوئ ولاية يزيد على ضوء محاسن عمر بن عبد العزيز.

كان يزيد منصرفًا عن أمور الدولة منشغلًا بعشقه لحبّابة الذي صرعه، تلك الجارية التي ملكت عليه هواه واستأثرت بلبه فشاعت في منافذ حسه وجوانب نفسه، وقد خلا بها وحدها في قصر مدة من الدهر لا يدخل عليهما أحد، وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل ما يسوءه، وبينما هو معها في هذا القصر، على أسر حال وأنعم بال، وبين أيديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك، فشرقت بها وماتت، فأبى أن يدفنها مدة وجعل يقبلها ويرشفها أيامًا وهي ميتة حتى جيفت الجثة، ولامه أخوه على هذا فأمر بدفنها، فلما دفنت أقام عند قبرها قائمًا، وقد ذكر الصلاح الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات أنه نبش قبرها، وظل هائمًا بها حتى رجع إلى بيته فلم يبرحه حتى مات بعدها بسبعة عشر يومًا؛ حزنًا وكمدًا على حبّابة، ويذكر ابن كثير هذا الأمر في “البداية والنهاية” وذكر أيضًا في مروج الذهب للمسعودي.

ترك لنا الخليفة العاشق إرثًا عاطفيًّا ضخمًا انطوت عليه قصة حبه وغرامه التي تنفطر لها قلوب الصبايا، وتستدر عطف العاشقين ودمع المحبين، فقد كان ما يكابده يزيد من عشق أحق ألَّا يترك في نفسه متسعًا لمتابعة أمور البلاد، فقد كان عاشقًا بحق خليفة بزيف ووهم، إذ يحق لنا أن ننكر يزيد كخليفة ونستيعض به عن هذا عاشقًا صادقًا، حيث يليق به هذا الدور، فأحسب أنني أتحدث عن متيم عاشق ولهان متدله قضى خلافته في عشقه ومات من أجله، ولا أحسبني أتحدث عن خليفة من المفترض أن يكون أميرًا للمؤمنين وإمامًا للمسلمين، وخادمًا للحرمين وحامي حمى الإيمان، والملتزم بأحكام القرآن وسنة نبي الرحمن.

ولم يعنِ يزيد بأمر قبل استغراقه في عشقه حبابة وتهتكه وفسقه ومجونه، اللهم إلَّا بعض الأحقاد والضغائن، والرغبة في الانتقام، التي لم يخلص منها مثل من سبقوه في الخلافة، فقد كان هناك خلاف حاد ومنافسة شرسة بين يزيد بن عبد الملك ويزيد بن المهلب أيام الشباب على السؤدد والوجاهة، جرت على إثرها حروب ضارية بينهما، وتوعده يزيد بالفتك به وبأهله حين يتولى الخلافة، وعزم يزيد بن المهلب إذا تولى يزيد بن عبد الملك الخلافة أن يخرج عليه ويستقل بالعراق، وهو ما حدث بالفعل، فقد خرج ابن المهلب على ابن عبد الملك واستولى على البصرة فجرد له يزيد بن عبد الملك جيشًا كبيرًا واشتعلت فتنة عظيمة انتهت بمقتل يزيد بن المهلب وباقي إخوته وأبنائه، وأسرف في الانتقام إلى أبعد حد، فشرع في قتل آل المهلب حتى أفناهم جميعًا كبيرهم وصغيرهم.

ولم يقتصر بطشه على هذا الحد بل صب جام غضبه على عبد الرحمن بن الضحاك والي مكة والمدينة، وفعل به الأفاعيل لمجرد غضبة بينهما، فعزله وأرسل مكانه عبد الواحد النضري، وأمره أن يضرب عبد الرحمن بن الضحاك حتى يسمع صراخه أمير المؤمنين وهو متكئ على فراشه بدمشق وأن يأخذ منه أربعين ألف دينار، ولم يقبل حتى شفاعة أخيه مسلمة بن عبد الملك فيه وأصر على إيقاع العقوبة به.

وأشعلت عصبيته القبلية المنحازة للقبائل المضرية “القيسية” ضد اليمانية، العديد من الثورات ضده، غير ثورة يزيد بن المهلب في العراق، مما أدى إلى تمزق المجتمع العربي، حيث اندلعت الثورات في الشمال الإفريقي والأندلس، بعد أن شعر البربر وغيرهم بالظلم من فرض الجزية عليهم رغم إسلامهم، كما حدث ذلك في بلاد الترك وما وراء النهر، وفي بلاد الخزر، واستطاع الثوار أن يلحقوا بالقوات الأموية هزائم منكرة، ليعود الخوارج إلى نشاطهم المعادي للدولة بعد سكونهم في عهد عمر بن عبد العزيز، مما تسبب في وقف حركة الفتوحات الإسلامية نهائيًّا؛ لانشغال الدولة بالثورات والاضطرابات الداخلية.

ولم ينتفع بيزيد بن عبد الملك في الخلافة بقليل أو كثير، فحط من وضعها، ولم يكن مؤهلًا للخلافة بحال من الأحوال، حيث كان شخصية عبثية منصرفة إلى مجالس الغناء والجواري أكثر من ارتباطها بقضايا الناس ومشكلات الدولة، وفقد كان ماجنًا فاسقًا شروبًا للخمر منتهكًا حرمات الله، هائمًا في أودية الغواية.