قصص من داخل دواوين القضاء الداعشي
في حديثه عن نظام داعش القضائي، يقول الشيخ أبو حمود من ريف حلب الشرقي: “قد تكون مستغربة حالة التطابق بين نظام علماني ونظام إسلامي سلفي، ويزول الاستغراب إذا عرفنا أنّ الاستبداد هو السمة المشتركة بينهما، وبالتالي غياب القضاء أمام سطوة الأمن”.
ربما كان من أبرز أسباب قيام الثورة السورية، الظلم الذي تعرض له الشعب السوري، فقد ساهمت المنظومة القضائية الخاضعة للأجهزة الأمنية في تكريس الظلم بدلاً من رفعه عن المواطن. وحالياً، يكرر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الممارسات نفسها في الأراضي الخاضعة لسيطرته، إن لم يكن قد تجاوزها.
أحكام داعش المبرمة
نجد في القضاء العادي نوعين من القضاء (المدني والعسكري)، كما أنّ الحكم القضائي يتم على مراحل (الابتدائية، الاستئناف، النقض) بهدف الحد من الأخطاء، والبعد عن الظلم. يقول المحامي ناصر أبو محمود: “تسهم مراحل صدور الحكم بمنح المتهم أكثر من فرصة للدفاع عن نفسه، وهذا ما يحد من احتمال الخطأ”. لكنّ الفساد الذي ضرب الجهاز القضائي السوري جعل من هذه المراحل وسائل إضافية للابتزاز، وضياع الحقوق. ويتابع المحامي ناصر: “انتشار المحسوبية والرشى جعل مراحل المحاكمة فرصة للمساومة، فمن يعرف المفاتيح يصدر الحكم لمصلحته”.
ومع سيطرة تنظيم داعش على بعض المناطق السورية، انقلبت الأمور رأساً على عقب شكلياً، فأغلق محاكم النظام التي اتهمها بالكفر لأنها تحكم بغير ما أنزل الله، واعتقل عدداً من القضاة ومنهم رئيس النيابة في منبج لمدة شهر تقريباً، وأقام محاكمه التي تستلهم الشرع الإسلامي.
ومن مزايا القضاء في التنظيم، السرعة في تنفيذ الأحكام. فلا يوجد في محاكم التنظيم التقسيمات الموجودة في القضاء المدني العادي. يقول المدرس أبو أحمد: “إيجابية السرعة تتحول إلى سلبية إذا عرفنا ظروف التحقيق، وعدم أهلية القاضي، فقد أقدم التنظيم على إعدام شاب عمره 16 سنة واسمه يوسف في منبج منذ نحو 10 شهور بتهمة اغتصاب سيدة ليتبين بعدها أنه لم يغتصبها”. فقد كان الخلاف بينهما على مال وقامت السيدة باتهامه بهذا الجرم لتخويفه وفوجئت بإعدامه. ولكن القضية أغلقت رغم محاولة أهل الشاب فتحها خشية من اهتزاز صورة التنظيم. وتركت هذه الحادثة استياء في الشارع المنبجي.
ولا يرجع الظلم إلى عدم أهلية القضاة فقط بل يعود قسم منه إلى إجراءات التحقيق. فالاعترافات تؤخذ تحت التعذيب ولا سيما في ما يتعلق بالقضايا الأمنية والجنائية. يقول السجين السابق محمد ح.: “قسم من القضاة يستند إلى الاعترافات المأخوذة تحت الضغط (التعذيب) وإذا لم يأخذ القاضي بها، يعاد التحقيق مرة ثانية لكن بأساليب أشد قسوة”.
يقول أبو حسام، المدرس الذي كان قريباً من التنظيم: “ادعى التنظيم أنه يحكم بشرع الله، وفعلاً هذا ما حصل من الناحية الشكلية، لكنّ المظالم والأحكام التي تصدر، وقبل ذلك التجاوزات، تدحض هذا الادعاء. فغالبية القضاة غير جديرين بالمنصب”. إذ في البداية، كان قضاة التنظيم من أصحاب العلم الشرعي، ولكن مع تمدده راح يعيّن قضاة غير مؤهلين، مكتفياً بإعطائهم دورات شرعية مدتها ستة أشهر تخوّلهم ممارسة القضاء”.
المحاكمات الأمنية
وتختلف الإجراءات باختلاف المحاكم، فللقضايا الأمنية قضاة مختصون، وغالباً ما تتأخر المحاكمة شهوراً. ويتابع محمد: “اعتقلت لأربعة شهور بتهمة الانتماء للجيش الحر، علماً أنني تركت الجيش الحر قبل حدوث الفتنة مع التنظيم، والحمد لله حكم القاضي ببراءتي، وكان لتزكيات بعض عناصر التنظيم دور في ذلك”.
مع العلم أنّ التنظيم يمنح تعويضاً مادياً لكل مَن تصدر في حقهم أحكام البراءة. ولكن القضايا الأمنية تخضع لمزاجية القاضي والمحقق والجهة التي كتبت التقرير. فقد أعدم التنظيم شاباً في ريف مدينة الباب كان في تركيا وجاء لزيارة أهله، بتهمة الانتماء للجيش الحر. ويقول أحد معارفه محمود أبو حسن: “لم ينخرط في الجيش الحر سوى شهور قليلة، وذهب للعمل في تركيا قبل المشاكل بين الحر والتنظيم، ولذلك لم يعلن التوبة (الاستتابة) أمام التنظيم عندما رجع إلى القرية ظناً منه أنه غير معني بها، فأعدم”.
ومثل هذه القصص كثير. فمحاكم التنظيم في الأمور الأمنية تأخذ بالنيات لا بالأفعال. يروي الطالب الجامعي سامر من الباب: “أعدم التنظيم ابن أحد أغنياء الباب في جرابلس بتهمة التعاون مع الجيش الحر، ورفض تسليم الجثة لوالده إلا بعد وساطات، واشترط ألا يدفن في مقابر المسلمين وألا يصلى عليه”. والسبب هو أن عناصر من الجيش الحر طلبوا من هذا الشاب تحويل محطة الوقود التي يملكها إلى مركز اعتقال سري لعناصر داعش، فأجابهم بأن هذا المكان لا يصلح لمناقشة هذه الأمور، وانتهى النقاش هنا. واعتبر التنظيم أن كلامه موافقةٌ مبدئية على خطف وقتل عناصره.
قضاء سريع وغير عادل
وفي ظل عدم وجود نص مكتوب، تكثر الاجتهادات. ويأخذ القضاة الجدد بالآراء الفقهية الشاذة المتميزة بالقسوة والتي تخالف جمهور فقهاء الأمة. يقول خريج الشريعة أبو عمرو من ريف حلب: “هدف القاضي إحقاق الحق لا الانتقام والتشفي”. ويروي أن “التنظيم صادر أموال س.، من منبج، بتهمة تمويل الكفرة (الجيش الحر)، علماً أنّ الرجل معروف في البلدة بالصلاح، وتبرع بـ11 مليون ليرة سورية للجيش الحر، عندما كان التنظيم والحر يرابطان معاً على الجبهات”. كما أخذ التنظيم شطر مال عدد من التجار بتهمة التهرب من الزكاة ومنهم تاجر خضر في منبج من آل الدالاتي، ومحمد علي من مدينة الباب رغم أن عقوبة أخذ الشطر شاذة لم يعمل بها في التاريخ الإسلامي.
وغالباً، لا يستعين القضاة بأهل الخبرة، ما يفاقم الأخطاء، لا سيما إذا عرفنا أنّ القضاة الجدد يسعون إلى إثبات الولاء من خلال أحكامهم القاسية، وأنّ قسماً منهم غرباء لا يعرفون الأعراف والعادات الاجتماعية المعمول بها. على سبيل المثال، يقول عمار من ريف جرابلس: “أعدم التنظيم الشاب عبد الخالق شيخ محمد (45 سنة)، في جب الخفي إحدى قرى جرابلس، والرجل من قرية البلدق بجرابلس، بتهمة السحر والشعوذة. وباعتراف أحد عناصر التنظيم عبد الحفيظ أبو أحمد الشامي، وهو والد أبو حفص المعروف في المنطقة، فقد ذُكر في إحدى الجلسات أن الدولة أخطأت بإعدامه، وأن الشاب مريض. وهذا ما أكده عبد الحفيظ ابن قريته وقريبه الذي يعرف حاله ووضعه”. يذكر أن الشاب كان في مستشفى للأمراض النفسية والعقلية وكل أهل القرية يعرفون ذلك.
محاكم الأحوال الشخصية
وتعد محاكم الأحوال الشخصية أفضل محاكم التنظيم، إذ تقل الأخطاء فيها. وقد حصلت كل أنثى قدمت شكوى تطالب بنصيبها الشرعي في الميراث على حصتها، ولو كان حصر الإرث تم منذ عشرات السنين. ولكن هذا ولّد مشاكل من نوع خاص كما حصل في ريف منبج. يقول الأربعيني أيمن: “طالب أولاد عمتي المتوفاة بقسمتها من الأرض التي أخذتها مالاً قبل أن تتوفى. ولكن هذا غير مسجل كون الأرض في غالبيتها غير مسجلة يتقاسمها الأبناء ويرضون أخواتهم، وحكم لهم القاضي بقطعة أرض، وهذا ولّد حقداً وقد يتسبب بمشاكل أكبر”.
أحكام بموجب قوانين وضعها النظام
أما في مجال الحقوق المالية والأملاك فتحكم محاكم التنظيم لمصلحته، والغريب أنها تستند في عدد من أحكامها إلى القوانين الوضعية. إذ صادر التنظيم “أراضي المغمورين” في إحدى قرى ريف مسكنة في ريف حلب الشرقي، وحولها إلى بازار مازوت، وراح يأخذ عن كل برميل مئة ليرة. والمغمورون هم الذين غمرت البحيرة المتشكلة من سد تشرين أراضيهم، وكان النظام السوري قد عوّض عليهم خسائرهم إما مادياً أو بإعطائهم أراضي في مناطق أخرى منها مسكنة.
ويقول م. أ.، أحد المتضررين: “لدى مراجعة القاضي الشرعي في المنطقة، قال: إن مثل هذه الملكية لم ترد في الشرع، لذلك سنعمل بالقوانين الموجودة من قبل. ثمة قرار من الحكومة السورية ينص على أنّ كل مغمور لا يبني بيتاً في الأرض المعطاة له خلال ثلاثة شهور من الترحيل، تصادر الأرض”. وهذا القرار أصدرته الدولة السورية عام 1998 بهدف حث الناس على الإسراع في البناء، ليتسنى لها نقلهم قبل تشكيل بحيرة سد تشرين، وليكون لهم أماكن إيواء وسكن بديلة. ولم يبن الناس بيوتاً لأنهم وجدوا فرص عمل في أماكن أخرى، ولكن الدولة السورية كفلت لهم حقهم في ملكية العقار.